الصفحة الرئيسية  متفرّقات

متفرّقات بورقيبة: السياسي الذي لم يسرق ولو مليما واحدا من مال الشعب

نشر في  09 أفريل 2014  (09:51)

بقلم المنصف بن مراد

بادئ ذي بدء لابدّ من الترحّم على مؤسّس الدولة الحديثة الزّعيم الحبيب بورقيبة الذي لولاه لكانت تونس بلدا متخلّفا حضاريا مثل كل البلدان العربيّة الفاشلة، ولقد كان على حقّ حين أكّد في أحد الخطب أنّه «يوغرطة الناجح».. اليوم نلاحظ تجاذبات كبيرة بين من يريدون توظيف بورقيبة لأغراض سياسية وبين الحركات الدينية التي لا تعترف بنضالاته وهي تحقد على مدنية تونس ووسطيّتها والإرث البورقيبي.

ولئن يصعب تاريخيّا تقييم انجازات الزّعيم بكلّ موضوعية، فهناك ايجابيات كبيرة وأخطاء ثابتة تجعل من بورقيبة عملاقا وكذلك انسانا لا يجب تأليهه علما انّ الشعب التونسي بنسائه ورجاله هو من شيّد هذا البلد العظيم بقيادة الزّعيم.. في البداية أذكّر بأنّ «أخبار الجمهورية» كانت الصحيفة الوحيدة التي أنجزت 7 صفحات خاصّة عند وفاة بورقيبة مع تخصيص الصفحة الأولى بكاملها لصورته، في حين لازمت كل الصحف التونسية الصمت ولم تنشر في ذلك الوقت إلاّ بعض المقالات المحتشمة.

على صعيد الايجابيات كانت خيارات بورقيبة ممتازة لأنّه أسّس دولة حديثة ووسطية ومتفتحة و«ثورية» عندما أقرّ مجلة الأحوال الشخصية التي ضمنت حقوق المرأة ومساواتها المطلقة مع الرّجل، بينما كانت المرأة ومازالت في البلدان العربية والاسلاميّة «مكمّلة» للرّجل أو سجينة النّقاب والجهل والظلم..

وإذا كان الزّعيم هو الرائد بالنّسبة الى حقوق المرأة، فلا يعقل أن تقزّم الحركة النسائية التي قادتها بشيرة بن مراد بمعيّة المئات من المناضلات في كلّ المدن التونسية بما جعل اسهامهنّ كبيرا في ما تحقّق للمرأة من مكاسب. أمّا الانجاز الثاني الكبير فيتمثّل في التعليم والاهتمام بالشّباب، فقد سخرت كلّ حكومات بورقيبة ثلث الميزانية لهذا القطاع ممّا مكّن من احداث المدارس والمعاهد حتى في المناطق النائية، والجامعات في المدن وأقبلت الفتيات على التعليم وتمكّن أبناء الفقراء والطبقة الوسطى من استغلال المصعد الاجتماعي l'ascenceur social وأصبح ابن الرّيف الفقير مهندسا وطبيبا ووزيرا..

كما بعث بورقيبة برنامج رفع الأمّية الذي أشرف عليه الأستاذ عبد الحق لسود بكل اقتدار.. لقد كان بورقيبة ثوريّا ومجدّدا في مجال نشر العلم والمعرفة.. وفي ما يخصّ الانجاز الثالث فيتمثّل في بعث نظام صحّي متكامل ضمن ـ نسبيا ـ الصحة للمعوزين وفي كبرى المدن التونسيّة كما سمح بتكوين أجيال من الأطبّاء لا يرقى الشكّ الى كفاءتهم المهنية، ولو أنّ هناك اليوم بعض التهديدات التي تستهدف هذا النظام الصحّي الممتاز..

هذه الخيارات وضعت أسس نظام وسطي منفتح على العالم وإدارة ممتازة وان كانت تشوبها بعض النّقائص فأصبحت «هيبة الدولة» في الإدارة التونسية مفخرة كل التونسيين ولو أنّ الإدارة انهارت نسبيا منذ سنتين في بلادنا بعد ان حانت الفرصة للثأر من دولة بورقيبة وانجازاتها من قبل المتشدّدين..

لقد كان الزّعيم المحرك الأساسي في بناء الدولة الحديثة، وبفضل عبقريّته باتت تونس تحظى باحترام بلدان العالم وتقديرها، وللأمانة لابدّ من الإشادة هنا بالاسهامات القيّمة لمجموعة من وزراء الخارجية ذوي الحنكة والصنعة...

كما يجب التذكير بمواقفه من القضية الفلسطينية التي كانت واقعيّة ورفضها بعض القادة العرب... والجدير بالملاحظة انّ من خصال بورقيبة عدم حرصه على المال وجني الثروات خلافا لأغلب الملوك والرؤساء العرب الذين استغلوا الفرص لنهب شعوبهم وتكديس ثروات طائلة.. لقد توفي بورقيبة فقيرا ولم يملك منزلا ولا ضيعة ولا مشروعا اقتصاديا لا في تونس ولا في الخارج.. كان استثناء بما ان ثروته في حب بلاده وبنائها، مع العلم انه لم يتدخّل لصالح أيّ فرد من عائلته لكسب الأموال والمؤسّسات..

كل هذه الانجازات يؤكّدها التاريخ، والأمانة تقتضي الاعتراف بها.. لقد كان بورقيبة عملاقا ومن كبار رجال هذا العالم ولكل من يحاول فسخ انجازاته فهو مخطئ أو حاقد! أما الأخطاء التي ارتكبها المرحوم الحبيب بورقيبة فتتمثل أساسا في رفضه ارساء الديمقراطية، إذ كان يعتقد انّه الوحيد القادر على قيادة البلاد دون معارضة أو منافس حتى أصبح «المجاهد الأكبر»..

لقد رفض الديمقراطية حتى داخل حزبه وتصدّى لمحاولة حقن جرعة من الحرية في اختيارات الحزب الدستوري واقصى المجموعة التي كان يقودها السيد أحمد المستيري والتي كانت تطالب بأكثر ديمقراطية، كما انّه سمح بتزوير كل الانتخابات التشريعيّة والرئاسية حتى أصبح وزير الداخلية والولاة والمعتمدون وكل المسؤولين الحزبيين «ماكينة تزوير» لإرادة الشعب الذي لم يكن ضدّ بورقيبة لكن ضد احتكار الحكم من قبل حزب وكذلك ضدّ اقصاء المعارضين واضطهادهم على غرار المرحوم صالح بن يوسف أو سواء كانوا من اليسار أو من الحركة الاسلاميّة وحتى من الديمقراطيين..

وحتى لمن يدعي انّ بورقيبة رفض الديمقراطية لأنّ الشعب غير ناضج وان الوضع غير مستقرّ في ظلّ وجود مخاطر وتهديدات داخلية، نقول انّ الشعب كان على درجة كبيرة من الوعي اضافة الى صلابة كوادر اتحاد الشغل وأهمّية نخبه!.. وفضلا عن ذلك فانّ حاشية بورقيبة أرادت ان يواصل مهامّه وان كانت صحته لا تسمح له بذلك لأنّه كان تارة في منتهى قدراته الذهنية، وتارة أخرى في حالة غيبوبة..

كما ان مساندته للنظام الاشتراكي والذي فرضه السيد احمد بن صالح كانت من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الزّعيم. ورغم محاولة توظيفه لفائدة مصالح حزبية ضيقة ومحاولة استعمال اسمه كأصل تجاري، سيبقى المرحوم الحبيب بورقيبة عملاقا ومنظرا ورجل دولة ناضل لفائدة استقلال تونس وأسّس الدولة الحديثة، وبدل توظيفه كبضاعة سياسية، يتحتّم توظيف اختياراته الاستراتيجية مع إضافة أحلام شباب ومثقفي اليوم إليها...